بسم الله الرحمن الرحيم
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه
كفى شهر رمضان فخراً وتفضيلا على بقية الشهور نزول القرآن فيه وان ليلة القدر احدى لياليه (انا انزلناه في ليله القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر)
وقد عني به المسلمون في أقطار الارض واحاطوه بأنواع التكريم وأحيوه بتلاوة القرآن والعبادة وأغدقوا فيه الخير على الفقراء والمعوزين ويؤثر عن القاضي أبي عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة، الذي ولى قضاء مصر سنة 155 هـ 771 م أنه أول قاض حضر لنظر الهلال في شهر رمضان، وكان القضاة بعده يخرجون مع الناس إلى جامع محمود بسفح المقطم لرؤية الهلال في رجب وشعبان احتياطا لشهر رمضان، وأستمر القضاة على مكان بالجبل مرتفع عن المساجد، وكان قضاة مصر يخرجون إليها لنظر الأهلة إلى أن بنى محلها مسجد في العصر الفاطمي، فصارو يرصدونه من فوق المنارات
ولمصر عناية كبيرة بتكريم هذا الشهر وخاصة الدولة الفاطمية فقد إحتفت به احتفاء لم يسبق ولم يلحق فخصته بحفلات عظيمة بعضها تمهيدا لحلوله والبعض لاعلان رؤية هلاله ولاحيائه وكل تلك الحفلات كانت شاملة لانواع البر والصدقات مما يرفه عن الفقير ويدخل السرور عليه. فكان اذا أقبل شهر رمضان عهد إلى قضاة مصر بالطواف قبل حلوله بثلاثة أيام بالمساجد والمشاهد في القاهرة ومصر(الفسطاط) والقرافة والمشهد الحسيني لتفقد ما تم إجراؤه فيها من إصلاح وفرش وتعليق قناديل.
وكان الخلفاء الفاطميون يهدون إلى المساجد في هذا الشهر هدايا، لقد أعد الحاكم بأمر الله للجامع الأزهر تنوراً من الفضة و27 قنديلاً، ولجامع راشدة تنوراً و12 قنديلاً، واشترط اضاءتها في شهر رمضان وبعده تحفظ في مكان اعد لحفظها فيه. هذا عدا ثمن العود الهندي والبخور والكافور والمسك الذي يصرف لتلك المساجد في شهر رمضان.
فاذا كان اخر يوم من شهر شعبان اهتم الخليفة بمهرجان الرؤية لاعلان حلول شهر رمضان فيخرج متحلياً بملابسه الفخمة من باب الذهب أحد أبواب القصر الفاطمي الكبير وحوله الوزراء بملابسهم المزركشة، وخيولهم المطهمة، بسروجها المذهبة، وفي أيديهم الرماح والأسلحة المكفتة بالذهب والفضة، والأعلام الحريرية الملونة، وأمامه الجند تتقدمهم الموسيقى صادحة بأنغام شجية. ويسير في هذا الاحتفال تجار القاهرة من الجوهريين والصيارفة والصاغة وبقية التجار وقد تباروا في إقامة الزينات على حوانيتهم وتفننوا فيها بما يلفت نظر الخليفة
فيسير الموكب من بين القصرين إلى أن يخرج من باب الفتوح، ثم يدخل باب النصر عائداً إلى باب الذهب، وفي أثناء الطريق توزع الصدقات على الفقراء والمساكين.
وحينما يبلغ الخليفة القصر يستقبل بتلاوة القرآن الكريم في مدخل القصر ودهاليزه حتى يصل إلى خزانة الكسوة الخاصة، فيغير ملابسه ويوزع الدنانير والهدايا، ثم يتوجه لزيارة قبور آبائه حسب عادته. فاذا تم ذلك وثبتت رؤية الهلال أمر أن يكتب إلى الولاه والنواب بحلول شهر رمضان.
وبعد الدولة الفاطمية استمرت العناية بالاحتفال برؤية هلال شهر رمضان فقد كان يخرج قاضي القضاة والقضاة الأربعة والشهود ومعهم الشموع لرؤية الهلال، وكان يشترك معهم محتسب القاهرة وتجارها ورؤساء الطوائف والصناعات والشعب، وكانوا يشاهدون الهلال من منارة مدرسة المنصور قلاوون بالنحاسين امجاورتها للمحكمة الصالحية (مدرسة الصالح نجم الدين). فاذا تحققوا من رؤية الهلال اضيئت الانوار على الدكاكين وخرج قاضي القضاة في موكبه تحف به الشموع والفوانيس والمشاعل حتى يصل داره، ثم تتفرق الطوائف إلى أحيائها معلنين بالصيام.
واستمرت حفلات الرؤية موضع عناية الحكومات يشاركها فيها الشعب فقد كان المحتسب يذهب إلى بيت القاضي بالجمالية حيث كان يرصد الهلال من فوق منارة المنصور قلاوون يتقدمه الجند والموسيقى والتجار ومشايخ الحرف بطبولهم حتى اذا تبينت رؤية هلال رمضان تطلق الصواريخ والالعاب النارية كما تطلق المدافع من القلعة، ثم يمر موكب الرؤيا في انحاء القاهرة اعلانا بالصيام.
واشترك مشايخ الحرف في هذا الموكب وفي المواكب الكبيرة كالافراح وغيرها كانت تمثل فيه التجارات والصناعات على عربات بتبارى أصحابها. كل في إظهار تجارته أو صناعته مثل مواكب الزهور فهي من قبيل الدعاية، والدعابة وفيها ما يثير الإعجاب، وفيها ما يثير الضحك، وكان الشعب على بكرة أبيه يخرج لمشاهدة هذه المواكب.
وقد تضمنت جميع حجج الأوقاف مبالغ لتجديد الحصر سنوياً وفرشها في اول شهر رمضان ولزيادة الاضاءة فيه وزيادة مرتبات موظفي المسجد وكسوتهم واضاء
ة المنارات طوال الليل حتى السحور. ثم تطفأ ايذانا بالامساك.
وكان فانوس السحور موضع مساجلة بين الشعراء والادباء يتبارون في وصفه بخيال رائق فما انشده القاضي ابي الحسن بن النبيه:
حبذا في الصيام مئذنة الجا
مع واليل مسبل أذياله
خلتها والفانوس اذ رفعته
صائدا واقفاً لصيد الغزاله
كان شهر رمضان مصدر خير للمساجد فكثيراً ما افتتحت فيه مساجد جديدة، وكثيرا ما اعيد فيه فتح مساجد بعد اعمالها او تخريبها، وكانت دور العظماء والاغنياء تفتح ابوابها للوافدين اليها من الفقراء فينعمون بافطار شهي، ورحم الله سادة كان لا يحلو لهم الافطار الا وسط الوافدين على دورهم. وكانوا يحيون لياليه بقراءة القرآن وتلاوة الحديث الشريف وكانت تلك الدور ندوات القوم على مختلف المذاهب والمشارب. وكثيرا ما كان الاغنياء يمنحون الفقراء الوافدين على دورهم في هذا الشهر هبات مالية بعد استضافتهم على موائدهم.
حسن عبد الوهاب
ــــــــــــــــــــــــــــــ
من مقال بنفس العنوان من جريدة الأهرام بتاريخ 22-4-1955 –
المقال عبارة عن مقتطفات من كتاب رمضان لحسن عبد الوهاب –